فصل: الحادية عشرة‏:‏ نسب الله تعالى الفعل إلى آل فرعون

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏44‏)‏

‏{‏أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏أتأمرون الناس بالبر‏}‏ هذا استفهام التوبيخ والمراد في قول أهل التأويل علماء اليهود‏.‏ قال ابن عباس ‏(‏كان يهود المدينة يقول الرجل منهم لصهره ولذي قرابته ولمن بينه وبينه رضاع من المسلمين اثبت على الذي أنت عليه وما يأمرك به هذا الرجل يريدون محمد صلى الله عليه وسلم فإن أمره حق فكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه‏)‏ وعن ابن عباس أيضا ‏(‏كان الأحبار يأمرون مقلديهم وأتباعهم باتباع التوراة وكانوا يخالفونها في جحدهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم‏)‏ وقال ابن جريج‏:‏ كان الأحبار يحضون على طاعة الله وكانوا هم يواقعون المعاصي وقالت فرقة‏:‏ كانوا يحضون على الصدقة ويبخلون والمعنى متقارب وقال بعض أهل الإشارات المعنى أتطالبون الناس بحقائق المعاني وأنتم تخالقون عن ظواهر رسومها‏.‏

في شدة عذاب من هذه صفته روى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏ليلة أسري بي مررت على ناس تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت يا جبريل من هؤلاء‏؟‏ قال هؤلاء الخطباء من أهل الدنيا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون‏)‏ و روى أبو أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏إن الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم يجرون قصبهم في نار جهنم فيقال لهم من أنتم فيقولون نحن الذين كنا نأمر الناس بالخير وننسى أنفسنا‏)‏

قلت‏:‏ وهذا الحديث وإن كان فيه لين، لأن في سنده الخصيب بن جحدر كان الإمام أحمد يستضعفه وكذلك ابن معين يرويه عن أبي غالب عن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي وأبو غالب هو - فيما حكى يحيى بن معين - حزور القرشي مولى خالد بن عبدالله بن أسيد وقيل مولى باهلة‏.‏ وقيل مولى عبدالرحمن الحضرمي‏.‏ كان يختلف إلى الشام في تجارته قال يحيى بن معين هو صالح الحديث فقد رواه مسلم في صحيحه بمعناه عن أسامة بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏(‏يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه‏)‏ القصب

بضم القاف المعى وجمعه أقصاب والأقتاب الأمعاء واحدها قتب ومعنى ‏{‏فتندلق‏}‏‏:‏ فتخرج بسرعة‏.‏ وروينا ‏{‏فتنفلق‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ فقد دل الحديث الصحيح وألفاظ الآية على أن عقوبة من كان عالما بالمعروف وبالمنكر وبوجوب القيام بوظيفة كل واحد منهما أشد ممن لم يعلمه وإنما ذلك لأنه كالمستهين بحرمات الله تعالى ومستخف بأحكامه وهو ممن لا ينتفع بعلمه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏اشد

الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه ‏)‏‏"‏ أخرجه ابن ماجه في سننه‏"‏‏.‏

اعلم وفقك الله تعالى أن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر لا بسبب الأمر بالبر ولهذا ذم الله تعالى في كتابه قوما كانوا يأمرون بأعمال البر ولا يعملون بها وبخهم به توبيخا يتلى على طول الدهر إلى يوم القيامة فقال ‏{‏أتأمرون الناس بالبر‏}‏ الآية وقال منصور الفقيه فأحسن‏:‏

إن قوما يأمرونا بالذي لا يفعلونا

لمجانين وإن هم لم يكونوا يصرعونا

وقال أبو العتاهية‏:‏

وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى وريح الخطايا من ثيابك تسطع

وقال أبو الأسود الدؤلي‏:‏

لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم

وابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإن انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى بالقول منك وينفع التعليم

وقال أبو عمرو بن مطر‏:‏ حضرت مجلس أبي عثمان الحيري الزاهد فخرج وقعد على موضعه الذي كان يقعد عليه للتذكير، فسكت حتى طال سكوته، فناداه رجل كان يعرف بأبي العباس‏:‏ ترى أن تقول في سكوتك شيئا‏؟‏ فأنشأ يقول‏:‏

وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي والطبيب مريض

قال‏:‏ فارتفعت الأصوات بالبكاء والضجيج‏.‏

قال إبراهيم النخعي‏:‏ إني لأكره القصص لثلاث آيات، قوله تعالى‏{‏أتأمرون الناس بالبر‏} ‏ الآية، وقوله‏{‏لم تقولون ما لا تفعلون‏}‏ ، وقوله‏{‏وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه‏} ‏ ‏.‏ وقال سلم بن عمرو‏:‏

ما أقبح التزهيد من واعظ يزهد الناس ولا يزهد

لو كان في تزهيده صادقا أضحى وأمسى بيته المسجد

إن رفض الدنيا فما باله يستمنح الناس ويسترفد

والرزق مقسوم على من ترى يناله الأبيض والأسود

وقال الحسن لمطرف بن عبدالله‏:‏ عظ أصحابك، فقال إني أخاف أن أقول ما لا أفعل، قال‏:‏ يرحمك الله وأينا يفعل ما يقول ويود الشيطان أنه قد ظفر بهذا، فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر‏.‏ وقال مالك عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن سمعت سعيد بن جبير يقول‏:‏ لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر‏.‏ قال مالك‏:‏ وصدق، من ذا الذي ليس فيه شيء‏.‏

قوله تعالى‏{‏البر‏}‏ البر هنا الطاعة والعمل الصالح‏.‏ والبر‏:‏ الصدق‏.‏ والبر‏:‏ ولد الثعلب‏.‏ والبر‏:‏ سوق الغنم، ومنه قولهم‏{‏لا يعرف هرا من بر‏}‏ أي لا يعرف دعاء الغنم من سوقها‏.‏ فهو مشترك، وقال الشاعر‏:‏

لا هم رب إن بكرا دونكا يبرك الناس ويفجرونكا

أراد بقوله ‏{‏يبرك الناس‏}‏‏:‏ أي يطيعونك‏.‏ ويقال‏:‏ إن البر الفؤاد في قوله‏:‏

أكون مكان البر منه ودونه واجعل ما لي دونه وأوامره

والبربضم الباء معروف، وبفتحها الإجلال والتعظيم، ومنه ولد بر وبار، أي يعظم والديه ويكرمهما‏.‏

قوله تعالى‏{‏وتنسون أنفسكم‏}‏ أي تتركون‏.‏ والنسيان بكسر النون يكون بمعنى الترك، وهو المراد هنا، وفي قوله تعالى‏{‏نسوا الله فنسيهم‏} ‏ ، وقوله‏{‏فلما نسوا ما ذكروا به‏}‏ ، وقوله‏{‏ولا تنسوا الفضل بينكم‏}‏ ‏.‏ ويكون خلاف الذكر والحفظ، ومنه الحديث‏:‏ ‏(‏نسي آدم فنسيت ذريته‏)‏‏.‏ وسيأتي‏.‏ يقال‏:‏ رجل نسيانبفتح النون‏:‏ كثير النسيان للشيء‏.‏ وقد نسيت الشيء نسيانا، ولا تقل نَسَيانابالتحريك، لأن النسَيان إنما هو تثنية نسا العرق‏.‏ وأنفس‏:‏ جمع نفس، جمع قلة‏.‏ والنفس‏:‏ الروح، يقال‏:‏ خرجت نفسه، قال أبو خراش‏:‏

نجا سالم والنفس منه بشدقه ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا

أي بجفن سيف ومئزر‏.‏ ومن الدليل على أن النفس الروح قوله تعالى‏{‏الله يتوفى الأنفس حين موتها‏}‏ يريد الأرواح في قول جماعة من أهل التأويل على ما يأتي، وذلك بين في قول بلال للنبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن شهاب‏:‏ أخذ بنفسي يا رسول الله الذي أخذ بنفسك‏.‏ وقوله عليه السلام في حديث زيد بن أسلم ‏(‏إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا‏)‏ رواهما مالك‏.‏ وهو أولى ما يقال به‏.‏ والنفس أيضا الدم يقال سالت نفسه قال الشاعر‏:‏

تسيل على حد السيوف نفوسنا وليست على غير الظبات تسيل

وقال إبراهيم النخعي ما ليس له نفس سائلة فإنه لا ينجس الماء إذا مات فيه والنفس أيضا الجسد قال الشاعر‏:‏

نبئت أن بني سحيم أدخلوا أبياتهم تامور نفس المنذر

والتامور أيضا‏:‏ الدم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأنتم تتلون الكتاب‏}‏ توبيخ عظيم لمن فهم‏.‏ ‏{‏وتتلون‏}‏‏:‏ تقرؤون ‏{‏الكتاب‏}‏ التوراة‏.‏ وكذا من فعل فعلهم كان مثلهم وأصل التلاوة الاتباع، ولذلك استعمل في القراءة لأنه يتبع بعض الكلام ببعض في حروفه حتى يأتي على نسقه‏:‏ يقال‏:‏ تلوته إذا تبعته تلوا وتلوت القرآن تلاوة‏.‏ وتلوت الرجل تلوا إذا خذلته‏.‏ والتلية والتلاوةبضم التاء البقية يقال تليت لي من حقي تلاوة وتلية أي بقيت‏.‏ وأتليت أبقيت وتتّليت حقي إذا تتبعته حتى تستوفيه‏.‏ قال أبو زيد تلى الرجل إذا كان بآخر رمق‏.‏

قوله تعالى‏{‏أفلا تعقلون‏}‏أي أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية لكم‏.‏ والعقل المنع، ومنه عقال البعير لأنه يمنع عن الحركة ومنه العقل للدية لأنه يمنع ولي المقتول عن قتل الجاني، ومنه اعتقال البطن واللسان، ومنه يقال للحصن معقل والعقل نقيض الجهل والعقل ثوب أحمر تتخذه نساء العرب تغشي به الهوادج‏.‏ قال علقمة‏:‏

عقلا ورقما تكاد الطير تخطفه كأنه من دم الأجواف مدموم

المدموم بالدال المهملة الأحمر وهو المراد هنا والمدموم الممتلئ شحما من البعير وغيره‏.‏ ويقال هما ضربان من البرود قال ابن فارس‏:‏ والعقل من شيات الثياب ما كان نقشه طولا وما كان نقشه مستديرا فهو الرقم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ العاقل من عمل بما أوجب الله عليه فمن لم يعمل فهو جاهل‏.‏

اتفق أهل الحق على أن العقل كائن موجود ليس بقديم ولا معدوم لأنه لو كان معدوما لما اختص بالاتصاف به بعض الذوات دون بعض وإذا ثبت وجوده فيستحيل القول بقدمه، إذ الدليل قد قام على أن لا قديم إلا الله تعالى على ما يأتي بيانه في هذه السورة وغيرها إن شاء الله تعالى‏.‏ وقد صارت الفلاسفة إلى أن العقل قديم ثم منهم من صار إلى أنه جوهر لطيف في البدن ينبث شعاعه منه بمنزلة السراج في البيت يفصل به بين حقائق المعلومات ومنهم من قال إنه جوهر بسيط أي غير مركب‏.‏ ثم اختلفوا في محله فقالت طائفة منهم محله الدماغ لأن الدماغ محل الحس، وقالت طائفة أخرى محله القلب لأن القلب معدن الحياة ومادة الحواس وهذا القول في العقل بأنه جوهر فاسد من حيث إن الجواهر متماثلة فلو كان جوهر عقلا لكان كل جوهر عقلا وقيل إن العقل هو المدرك للأشياء على ما هي عليه من حقائق المعاني وهذا القول وإن كان أقرب مما قبله فيبعد عن الصواب من جهة أن الإدراك من صفات الحي والعقل عرض يستحيل ذلك منه كما يستحيل أن يكون ملتذا ومشتهيا‏.‏ وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري والأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني وغيرهما من المحققين العقل هو العلم بدليل أنه لا يقال عقلت وما علمت أو علمت وما عقلت‏.‏ وقال القاضي أبو بكر العقل علوم ضرورية بوجوب الواجبات وجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، وهو اختيار أبي المعالي في الإرشاد‏.‏ واختار في البرهان أنه صفة يتأتى بها درك العلوم واعترض على مذهب القاضي واستدل على فساد مذهبه وحكي في البرهان عن المحاسبي أنه قال العقل غريزة‏.‏ وحكى الأستاذ أبو بكر عن الشافعي وأبي عبدالله بن مجاهد أنهما قال‏:‏ العقل آلة التمييز‏.‏ وحكى عن أبي العباس القلانسي أنه قال العقل قوة التمييز‏.‏ وحكي عن المحاسبي أنه قال العقل أنوار وبصائر ثم رتب هذه الأقوال وحملها على محامل فقال‏:‏ والأولى ألا يصح هذا النقل عن الشافعي ولا عن ابن مجاهد فإن الآلة إنما تستعمل في الآلة المثبتة واستعمالها في الأعراض مجاز وكذلك قول من قال إنه قوة فإنه لا يعقل من القوة إلا القدرة‏.‏ والقلانسي أطلق ما أطلقه توسعا في العبارات وكذلك المحاسبي‏.‏ والعقل ليس بصورة ولا نور ولكن تستفاد به الأنوار والبصائر، وسيأتي في هذه السورة بيان فائدته في آية التوحيد إن شاء الله تعالى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏45‏)‏

‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين‏}‏

قوله تعالى‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة‏}‏ الصبر الحبس في اللغة‏:‏ وقتل فلان صبرا أي أمسك وحبس حتى أتلف‏.‏ وصبرت نفسي على الشيء‏:‏ حبستها‏.‏ والمصبورة التي نهي عنها في الحديث هي المحبوسة على الموت، وهي المجثَّمة‏.‏ وقال عنترة‏:‏

فصبرتُ عارفةً لذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع

أمر تعالى بالصبر على الطاعة وعن المخالفة في كتابه فقال ‏{‏واصبروا‏}‏ يقال فلان صابر عن المعاصي، وإذا صبر عن المعاصي فقد صبر على الطاعة، هذا أصح ما قيل‏.‏ قال النحاس ولا يقال لمن صبر على المصيبة‏:‏ صابر، إنما يقال صابر على كذا‏.‏ فإذا قلت صابر مطلقا فهو على ما ذكرنا، قال الله تعالى ‏{‏إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب‏}‏ ‏.‏

قوله تعالى‏{‏والصلاة‏}‏ خص الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويها بذكرها، وكان عليه السلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة‏.‏ ومنه ما روي أن عبدالله بن عباس نعي له أخوه قثم - وقيل بنت له - وهو في سفر فاسترجع وقال‏:‏ ‏(‏عورة سترها الله، ومؤونة كفاها الله، وأجر ساقه الله‏.‏ ثم تنحى عن الطريق وصلى ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة‏}‏ فالصلاة على هذا التأويل هي الشرعية، وقال قوم‏:‏ هي الدعاء على عرفها في اللغة، فتكون الآية على هذا التأويل مشبهة لقوله تعالى‏{‏إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله‏} لأن الثبات هو الصبر، والذكر هو الدعاء‏.‏ وقول ثالث قال مجاهد الصبر في هذه الآية الصوم ومنه قيل لرمضان شهر الصبر فجاء الصوم والصلاة على هذا القول في الآية متناسبا في أن الصيام يمنع من الشهوات ويزهد في الدنيا والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتخشع ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر الآخرة والله أعلم‏.‏

الصبر على الأذى والطاعات من باب جهاد النفس وقمعها عن شهواتها ومنعها من تطاولها وهو من أخلاق الأنبياء والصالحين، قال يحيى بن اليمان‏:‏ الصبر ألا تتمنى حال سوى ما رزقك الله والرضا بما قضى الله من أمر دنياك وآخرتك‏.‏ وقال الشعبي قال علي رضي الله عنه‏:‏ الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد‏.‏ قال الطبري‏:‏ وصدق علي رضي الله منه وذلك أن الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح فمن لم يصبر على العمل بجوارحه لم يستحق الإيمان بالإطلاق‏.‏ فالصبر على العمل بالشرائع نظير الرأس من الجسد للإنسان الذي لا تمام له إلا به‏.‏

وصف الله تعالى جزاء الأعمال وجعل لها نهاية وحدا فقال‏{‏من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها‏} ‏ وجعل جزاء الصدقة في سبيل الله فوق هذا فقال‏{‏مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة‏}‏ ُ الآية‏.‏ وجعل أجر الصابرين بغير حساب ومدح أهله فقال ‏{‏إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب‏} ‏ُ وقال ‏{‏ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور‏} ‏ .‏ وقد قيل أن المراد بالصابرين في قوله ‏{‏إنما يوفى الصابرون‏} ‏ُ أي الصائمون، لقوله تعالى في صحيح السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ الصيام لي وأنا أجزي به‏.‏ فلم يذكر ثوابا مقدرا كما لم يذكره في الصبر والله اعلم‏.‏

من فضل الصبر وصف الله تعالى نفسه به كما في حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏‏(‏ليس أحد أو ليس شيء أصبر على أذى سمعه من الله تعالى، إنهم ليدعون له ولدا وإنه ليعافيهم ويرزقهم‏)‏‏.‏‏"‏ أخرجه البخاري‏"‏‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ وصف الله تعالى بالصبر إنما هو بمعنى الحلم ومعنى وصفه تعالى بالحلم هو تأخير العقوبة عن المستحقين لها، ووصفه تعالى بالصبر لم يرد في التنزيل وإنما ورد في حديث أبي موسى وتأوله أهل السنة على تأويل الحلم قال ابن فورك وغيره‏:‏ وجاء في أسمائه ‏{‏الصبور‏}‏ للمبالغة في الحلم عمن عصاه‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإنها لكبيرة‏}‏ اختلف المتأولون في عود الضمير من قوله‏{‏وإنها‏}‏، فقيل‏:‏ على الصلاة وحدها خاصة، لأنها تكبر على النفوس ما لا يكبر الصوم‏.‏ والصبر هنا الصوم فالصلاة فيها سجن النفوس والصوم إنما فيه منع الشهوة فليس من منع شهوة واحدة أو شهوتين كمن منع جميع الشهوات‏.‏ فالصائم إنما منع شهوة النساء والطعام والشراب ثم ينبسط في سائر الشهوات من الكلام والمشي والنظر إلى غير ذلك من ملاقاة الخلق، فيتسلى بتلك الأشياء عما منع والمصلي يمتنع من جميع ذلك فجوارحه كلها مقيدة بالصلاة عن جميع الشهوات‏.‏ وإذا كان ذلك كانت الصلاة أصعب على النفس ومكابدتها أشد فلذلك قال ‏{‏وإنها لكبيرة‏}‏ وقيل عليهما، ولكنه كنى عن الأغلب وهو الصلاة، كقوله ‏{‏والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله‏}‏ وقوله ‏{‏وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها‏}‏ ُ فرد الكناية إلى الفضة لأنها الأغلب والأعم وإلى التجارة لأنها الأفضل والأهم‏.‏ وقيل إن الصبر لما كان داخلا في الصلاة أعاد عليها كما قال‏{‏والله ورسوله أحق أن يرضوه‏}‏ ُ ولم يقل يرضوهما لأن رضا الرسول داخل في رضا الله جل وعز ومنه قول الشاعر‏:‏

إن شرخ الشباب والشعر الأسـ ـود ما لم يعاص كان جنونا

ولم يقل يعاصيا، رد إلى الشباب لأن الشعر داخل فيه وقيل رد الكناية إلى كل واحد منهم لكن حذف اختصارا، قال الله تعالى ‏{‏وجعلنا ابن مريم وأمه آية‏}‏ ولم يقل آيتين ومنه قول الشاعر‏:‏

فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب

وقال آخر‏:‏

لكل هم من الهموم سعه والصبح والمسي لا فلاح معه

أراد‏:‏ لغريبان، لا فلاح معهما، وقيل على العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة وقيل على المصدر وهى الاستعانة التي يقتضيها قوله‏{‏واستعينوا‏}‏ وقيل على أجابه محمد عليه السلام، لأن الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه‏.‏ وقيل على الكعبة لأن الأمر بالصلاة إنما هو إليها‏.‏ ‏{‏وكبيرة‏}‏ معناه ثقيلة شاقة، خبر ‏{‏إن‏}‏ ويجوز في غير القرآن‏{‏وإنه لكبيرة إلا على الخاشعين‏}‏ فإنها خفيفة عليهم‏.‏ قال أرباب المعاني إلا على من أيد في الأزل بخصائص الاجتباء والهدى‏.‏

قوله تعالى‏{‏على الخاشعين‏}‏ الخاشعون جمع خاشع وهو المتواضع والخشوع هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون وتواضع‏.‏ وقال قتادة الخشوع في القلب وهو الخوف وغض البصر في الصلاة‏.‏ قال الزجاج الخاشع الذي يرى أثر الذل والخشوع عليه كخشوع الدار بعد الإقوان‏؟‏‏؟‏ هذا هو الأصل قال النابغة‏:‏

رماد ككحل العين لأيا أبينه ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع

ومكان خاشع‏:‏ لا يهتدى له‏.‏ وخشعت الأصوات أي سكنت، وخشعت خراشي صدره إذا ألقى بصاقا لزجا‏.‏ وخشع ببصره إذا غضه‏.‏ والخشعة قطعة من الأرض رخوة‏.‏ وفي الحديث ‏(‏كانت خشعة على الماء ثم دحيت بعد‏)‏‏.‏ وبلدة خاشعة مغبرة لا منزل بها‏.‏ قال سفيان الثوري سألت الأعمش عن الخشوع فقال يا ثوري أنت تريد أن تكون إماما للناس ولا تعرف الخشوع سألت إبراهيم النخعي عن الخشوع فقال أعيمش تريد أن تكون إماما للناس ولا تعرف الخشوع ليس الخشوع بأكل الخشن ولبس الخشن وتطأطؤ الرأس، لكن الخشوع أن ترى الشريف والدنيء في الحق سواء، وتخشع لله في كل فرض افترض عليك‏.‏ ونظر عمر بن الخطاب إلى شاب قد نكس رأسه فقال يا هذا‏!‏ ارفع رأسك فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب‏.‏ وقال علي بن أبي طالب‏:‏ الخشوع في القلب، وأن تلين كفيك للمرء المسلم وألا تلتفت في صلاتك‏.‏ وسيأتي هذا المعنى مجودا عند قوله تعالى ‏{‏قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون‏}‏ فمن أظهر للناس خشوعا فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقا على نفاق‏.‏ قال سهل بن عبدالله لا يكون خاشعا حتى تخشع كل شعرة على جسده لقول الله تبارك وتعالى‏}‏تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم‏} ‏ .‏

قلت‏:‏ هذا هو الخشوع المحمود لأن الخوف إذا سكن القلب أوجب خشوع الظاهر فلا يملك صاحبه دفعه فتراه مطرقا متأدبا متذللا‏.‏ وقد كان السلف يجتهدون في ستر ما يظهر من ذلك وأما المذموم فتكلفه والتباكي ومطأطأة الرأس كما يفعله الجهال ليروا بعين البر والإجلال وذلك خدع من الشيطان وتسويل من نفس الإنسان‏.‏ روى الحسن أن رجلا تنفس عند عمر بن الخطاب كأنه يتحازن فلكزه عمر أو قال لكمه‏.‏ وكان عمر رضي الله عنه إذا تكلم أسمع وإذا مشى أسرع وإذا ضرب أوجع وكان ناسكا صدقا وخاشعا حقا‏.‏ و روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال‏:‏ الخاشعون هم المؤمنون حقا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏46‏)‏

‏{‏الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون‏}‏

قوله تعالى‏{‏الذين يظنون‏}‏الذين في موضع خفض على النعت للخاشعين، ويجوز الرفع على القطع‏.‏ والظن هنا في قول الجمهور بمعنى اليقين ومنه قوله تعالى ‏{‏إني ظننت أني ملاق حسابيه‏}‏ وقوله‏{‏فظنوا أنهم مواقعوها‏}‏ ‏.‏ قال دريد بن الصمة‏:‏

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد

وقال أبو داود‏:‏

رب هم فرجته بغريم وغيوب كشفتها بظنون

وقد قيل‏:‏ إن الظن في الآية يصح أن يكون على بابه ويضمر في الكلام بذنوبهم فكأنهم يتوقعون لقاءه مذنبين ذكر المهدوي والماوردي قال ابن عطية‏:‏ وهذا تعسف‏.‏ وزعم الفراء أن الظن قد يقع بمعنى الكذب ولا يعرف ذلك البصريون‏.‏ وأصل الظن وقاعدته الشك مع ميل إلى أحد معتقديه وقد يوقع موقع اليقين، كما في هذه الآية وغيرها لكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحس لا تقول العرب في رجل مرئي حاضر‏:‏ أظن هذا إنسانا‏.‏ وإنما تجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحس بمعنى كهذه الآية والشعر، وكقوله تعالى ‏{‏فظنوا أنهم مواقعوها‏}‏‏.‏ وقد يجيء اليقين بمعنى الظن وقد تقدم بيانه أول السورة وتقول‏:‏ سؤت به ظنا وأسأت به الظن‏.‏ يدخلون الألف إذا جاؤوا بالألف واللام‏.‏ ومعنى ‏{‏ملاقو ربهم‏}‏ جزاء ربهم‏.‏ وقيل‏:‏ إذا جاء على المفاعلة وهو من واحد، مثل عافاه الله‏.‏ ‏{‏وأنهم‏}‏ بفتح الهمزة عطف على الأول ويجوز ‏{‏وإنهم‏}‏ بكسرها على القطع‏.‏ ‏{‏إليه‏}‏ أي إلى ربهم، وقيل إلى جزائه‏.‏ ‏{‏راجعون‏}‏ إقرار بالبعث والجزاء والعرض على الملك الأعلى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏47‏)‏

‏{‏يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم‏}‏ تقدم‏.‏ ‏{‏وأني فضلتكم على العالمين‏}‏ يريد على عالمي زمانهم، وأهل كل زمان عالم‏.‏ وقيل‏:‏ على كل العالمين بما جعل فيهم من الأنبياء‏.‏ وهذا خاصة لهم وليست لغيرهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏48‏)‏

‏{‏واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا‏}‏ أمر معناه الوعيد، وقد مضى الكلام في التقوى‏.‏ ‏{‏يوماً‏}‏ يريد عذابه وهوله وهو يوم القيامة‏.‏ وتنصب على المفعول بـ ‏{‏اتقوا‏}‏‏.‏ ويجوز في غير القرآن يوم لا تجزي على الإضافة‏.‏ وفي الكلام حذف بين النحويين فيه اختلاف‏.‏ قال البصريون‏:‏ التقدير يوما لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا ثم حذف فيه كما قال‏:‏

ويوما شهدناه سليما وعامرا

أي شهدنا فيه‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ هذا خطأ لا يجوز حذف ‏{‏فيه‏}‏ ولكن التقدير‏:‏ واتقوا يوما لا تجزيه نفس، ثم حذف الهاء‏.‏ وإنما يجوز حذف الهاء لأن الظروف عنده لا يجوز حذفها قال‏:‏ لا يجوز أن تقول هذا رجلا قصدت، ولا رأيت رجلا أرغب، وأنت تريد قصدت إليه وأرغب فيه قال‏:‏ ولو جاز ذلك لجاز الذي تكلمت زيد بمعنى تكلمت فيه زيد‏.‏ وقال الفراء يجوز أن تحذف الهاء وفيه‏.‏ وحكى المهدوي أن الوجهين جائزان عند سيبويه والأخفش والزجاج‏.‏ ومعنى ‏{‏لا تجزي نفس عن نفس شيئا‏{‏ أي لا تؤاخذ نفس بذنب أخرى ولا تدفع عنها شيئا تقول‏:‏ جزى عني هذا الأمر يجزي، كما تقول قضى عني واجتزأت بالشيء اجتزاء إذا اكتفيت به، قال الشاعر‏:‏

فإن الغدر في الأقوام عار وأن الحر يجزأ بالكراع

أي يكتفي بها وفي حديث عمر ‏(‏إذا أجريت الماء على الماء جزى عنك‏)‏ يريد إذا صببت الماء على البول في الأرض فجرى عليه طهر المكان ولا حاجة بك إلى غسل ذلك الموضع وتنشيف الماء بخرقة أو غيرها كما يفعل كثير من الناس‏.‏ وفي صحيح الحديث عن أبي بردة بن نيار في الأضحية ‏(‏لن تجزي عن أحد بعدك‏)‏ أي لن تغني‏.‏ فمعنى لا تجزي لا تقضي ولا تغني ولا تكفي إن لم يكن عليها شيء، فإن كان فإنها تجزي وتقضي وتغني، بغير اختيارها من حسناتها ما عليها من الحقوق، كما في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه‏)‏‏.‏‏"‏ خرجه البخاري‏"‏‏.‏ ومثله حديثه الآخر في المفلس وقد ذكرناه في التذكرة خرجه مسلم‏.‏ وقرئ ‏{‏تجزئ‏}‏ بضم التاء والهمز‏.‏ ويقال جزى وأجزى بمعنى واحد وقد فرق بينهما قوم فقالوا جزى بمعنى قضى وكافأ، وأجزى بمعنى أغنى وكفى‏.‏ أجزأني الشيء يجزئني‏:‏ أي كفاني قال الشاعر

وأجزأت أمر العالمين ولم يكن ليجزئ إلا كامل وابن كامل

قوله تعالى‏{‏ولا يقبل منها شفاعة‏}‏ الشفاعة مأخوذة من الشفع وهما الاثنان، تقول كان وترا فشفعته شفعا والشفعة منه لأنك تضم ملك شريكك إلى ملكك‏.‏ والشفيع صاحب الشفعة وصاحب الشفاعة وناقة شافع‏:‏ إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها، تقول منه‏:‏ شفعت الناقة شفعا وناقة شفوع وهي التي تجمع بين محلبين في حلبة واحدة واستشفعته إلى فلان سألته أن يشفع لي إليه‏.‏ وتشفعت إليه في فلان فشفعني فيه فالشفاعة إذا ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع وإيصال منفعته للمشفوع‏.‏

مذهب أهل الحق أن الشفاعة حق، وأنكرها المعتزلة وخلدوا المؤمنين من المذنبين الذين دخلوا النار في العذاب والأخبار متظاهرة بأن من كان من العصاة المذنبين الموحدين من أمم النبيين هم الذين تنالهم شفاعة الشافعين من الملائكة والنبيين والشهداء والصالحين‏.‏ وقد تمسك القاضي عليهم في الرد بشيئين أحدهما‏:‏ الأخبار الكثيرة التي تواترت في المعنى والثاني الإجماع من السلف على تلقي هذه الأخبار بالقبول ولم يبد من أحد منهم في عصر من الأعصار نكير فظهور روايتها وإطباقهم على صحتها وقبولهم لها دليل قاطع على صحة عقيدة أهل الحق وفساد دين المعتزلة‏.‏

فإن قالوا قد وردت نصوص من الكتاب بما يوجب رد هذه الأخبار مثل قوله ‏{‏ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع‏} ‏ قالوا‏:‏ وأصحاب الكبائر ظالمون وقال ‏{‏من يعمل سوءا يجز به‏}‏{‏ ولا يقبل منها شفاعة‏}‏ قلنا‏:‏ ليست هذه الآيات عامة في كل ظالم والعموم لا صيغة له فلا تعم هذه الآيات كل من يعمل سوءا وكل نفس، وإنما المراد بها الكافرون دون المؤمنين بدليل الأخبار الواردة في ذلك وأيضا فإن الله تعالى أثبت شفاعة لأقوام ونفاها عن أقوام فقال في صفة الكافرين ‏{‏فما تنفعهم شفاعة الشافعين‏}‏ ُ وقال ‏{‏ولا يشفعون إلا لمن ارتضى‏}‏ ُ وقال ‏{‏ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له‏} ‏ ‏.‏ فعلمنا بهذه الجملة أن الشفاعة إنما تنفع المؤمنين دون الكافرين‏.‏ وقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى ‏{‏واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة‏{‏ النفس الكافرة لا كل نفس‏.‏ ونحن وإن قلنا بعموم العذاب لكل ظالم عاص فلا نقول إنهم مخلدون فيها بدليل الأخبار التي رويناها وبدليل قوله ‏{‏ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ ‏.‏ ‏.‏ وقوله ‏{‏انه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون‏}‏ ُ

فإن قالوا‏:‏ فقد قال تعالى‏{‏ولا يشفعون إلا لمن ارتضى‏}‏ والفاسق غير مرتضى قلنا لم يقل لمن لا يرضى وإنما قال ‏{‏لمن ارتضى‏}‏ ومن ارتضاه الله للشفاعة هم الموحدون، بدليل قوله ‏{‏لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا‏}‏ وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم ما عهد الله مع خلقه قال ‏(‏أن يؤمنوا ولا يشركوا به شيئا‏)‏ وقال المفسرون إلا من قال لا إله إلا الله

فإن قالوا المرتضى هو التائب الذي اتخذ عند الله عهدا بالإنابة إليه بدليل أن الملائكة استغفروا لهم، وقال ‏{‏فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك‏}‏ وكذلك شفاعة الأنبياء عليهم السلام إنما هي لأهل التوبة دون أهل الكبائر‏.‏ قلنا‏:‏ عندكم يجب على الله تعالى قبول التوبة فإذا قبل الله توبة المذنب فلا يحتاج إلى الشفاعة ولا إلى الاستغفار‏.‏ وأجمع أهل التفسير على أن المراد بقوله ‏{‏فاغفر للذين تابوا‏{‏ أي من الشرك ‏{‏واتبعوا سبيلك‏{‏ أي سبيل المؤمنين‏.‏ سألوا الله تعالى أن يغفر لهم ما دون الشرك من ذنوبهم كما قال تعالى ‏{‏ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏} ‏ .‏

فإن قالوا جميع الأمة يرغبون في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فلو كانت لأهل الكبائر خاصة بطل سؤالهم‏.‏

قلنا‏:‏ إنما يطلب كل مسلم شفاعة الرسول ويرغب إلى الله في أن تناله لاعتقاده انه غير سالم من الذنوب ولا قائم لله سبحانه بكل ما افترض عليه بل كل واحد معترف على نفسه بالنقص فهو لذلك يخاف العقاب ويرجو النجاة وقال صلى الله عليه وسلم ‏(‏لا ينجو أحد إلا برحمة الله تعالى فقيل‏:‏ ولا أنت يا رسول الله فقال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا يقبل‏}‏ قرأ ابن كثير وأبو عمرو ‏{‏تقبل‏}‏ بالتاء لأن الشفاعة مؤنثة وقرأ الباقون بالياء على التذكير لأنها بمعنى الشفيع وقال الأخفش حسن التذكير لأنك قد فرقت، كما تقدم في قوله ‏{‏فتلقى آدم من ربه كلمات‏} .‏

قوله تعالى‏{‏ولا يؤخذ منها عدل ‏}‏أي فداء‏.‏ والعدل بفتح العين الفداء و بكسرها المثل يقال عدل وعديل للذي يماثلك في الوزن والقدر‏.‏ ويقال‏:‏ عدل الشيء هو الذي يساويه قيمة وقدرا وإن لم يكن من جنسه والعدل بالكسر هو الذي يساوي الشيء من جنسه وفي جرمه وحكى الطبري أن من العرب من يكسر العين من معنى الفدية فأما واحد الأعدال فبالكسر لا غير

قوله تعالى‏{‏ولا هم ينصرون ‏}‏أي يعانون والنصر العون والأنصار الأعوان ومنه قوله ‏{‏من أنصاري إلى الله‏} أي من يضم نصرته إلى نصرتي وانتصر الرجل أنتقم والنصر الإتيان يقال نصرت أرض بني فلان أتيتها قال الشاعر ‏:‏

إذا دخل الشهر الحرام فودعي بلاد تميم وانصري أرض عامر

والنصر المطر يقال نصرت الأرض مطرت والنصر العطاء قال ‏:‏

إني وأسطار سطرن سطرا لقائل يا نصر نصرا نصرا

وكان سبب هذه الآية فيما ذكروا أن بني إسرائيل قالوا‏:‏ نحن أبناء الله وأحباؤه وأبناء أنبيائه وسيشفع لنا آباؤنا فأعلمهم الله تعالى عن يوم القيامة أنه لا تقبل فيه الشفاعات ولا يؤخذ فيه فدية وإنما خص الشفاعة والفدية والنصر بالذكر، لأنها هي المعاني التي اعتادها بنو آدم في الدنيا فإن الواقع في الشدة لا يتخلص إلا بأن يشفع له أو ينصر أو يفتدي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏49‏)‏

‏{‏وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم‏}‏

 فيها ثلاثة عشرة مسألة

 الأولى‏:‏ قوله تعالى‏{‏وإذ نجيناك‏}‏ ‏{‏إذ‏}‏ في موضع نصب عطف على ‏{‏اذكروا نعمتي‏}‏ وهذا وما بعده تذكير ببعض النعم التي كانت له عليهم أي اذكروا نعمتي بإنجائكم من عدوكم وجعل الأنبياء فيكم‏.‏ والخطاب للموجودين والمراد من سلف من الآباء كما قال ‏{‏إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية‏} أي حملنا آباءكم وقيل إنما قال ‏{‏نجيناكم‏}‏ لأن نجاة الآباء كانت سببا لنجاة هؤلاء الموجودين‏.‏ ومعنى ‏{‏نجيناكم‏}‏ ألقيناكم على نجوة من الأرض وهي ما ارتفع منها هذا هو الأصل ثم سمى كل فائز ناجيا فالناجي من خرج من ضيق إلى سعة وقرىء ‏{‏وإذ نجيتكم‏}‏ على التوحيد‏.‏

 الثانية‏:‏ قوله تعالى‏{‏من آل فرعون ‏}‏‏{‏آل فرعون‏}‏ قومه وأتباعه وأهل دينه وكذلك آل الرسول صلى الله عليه وسلم من هو على دينه وملته في عصره وسائر الأعصار سواء كان نسيبا له أو لم يكن‏.‏ ومن لم يكن على دينه وملته فليس من آله ولا أهله وإن كان نسيبه وقريبه‏.‏ خلافا للرافضة حيث قالت‏:‏ إن آل الرسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة والحسن والحسين فقط‏.‏ دليلنا قوله تعالى ‏{‏وأغرقنا آل فرعون‏}‏{‏ أدخلوا آل فرعون أشد العذاب‏} ‏ُ أي آل دينه إذ لم يكن له ابن ولا بنت ولا أب ولا عم ولا أخ ولا عصبة ولأنه لا خلاف أن من ليس بمؤمن ولا موحد فإنه ليس من آل محمد وإن كان قريبا له ولأجل هذا يقال إن أبا لهب وأبا جهل ليسا من آله ولا من أهله وإن كان بينهما وبين النبي صلى الله عليه وسلم قرابة ولأجل هذا قال الله تعالى في ابن نوح ‏{‏إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح‏}‏ وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارا غير سر يقول ‏(‏ألا إن آل أبي - يعني فلانا - ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين‏)‏ وقالت طائفة آل محمد أزواجه وذريته خاصة لحديث أبي حميد الساعدي أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك‏؟‏ قال ‏(‏قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد‏)‏‏"‏ رواه مسلم‏"‏ وقالت طائفة من أهل العلم الأهل معلوم والآل الأتباع والأول أصح لما ذكرناه ولحديث عبدالله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال‏(‏اللهم صل عليهم‏)‏ فأتاه أبي بصدقته فقال ‏(‏اللهم صل على آل أبي أوفى‏)‏

 الثالثة‏:‏ اختلف النحاة هل يضاف الآل إلى البلدان أو لا‏؟‏ فقال الكسائي‏:‏ إنما يقال آل فلان وآل فلانة ولا يقال في البلدان هو من آل حمص ولا من آل المدينة قال الأخفش إنما يقال في الرئيس الأعظم نحو آل محمد صلى الله عليه وسلم وآل فرعون لأنه رئيسهم في الضلالة قال وقد سمعناه في البلدان قالوا‏:‏ أهل المدينة وآل المدينة‏.‏

 الرابعة‏:‏ واختلف النحاة أيضا هل يضاف الآل إلى المضمر أو لا‏؟‏ فمنع من ذلك النحاس والزبيدي والكسائي فلا يقال إلا اللهم صل على محمد وآل محمد ولا يقال وآله والصواب أن يقال أهله وذهبت طائفة أخرى إلى أن ذلك يقال منهم ابن السيد وهو الصواب لأن السماع الصحيح يعضده فإنه قد جاء في قول عبدالمطلب‏:‏

لا هم إن العبد يمـ ـنع رحله فامنع حلالك

وانصر على آل الصليـ ـب وعابديه اليوم آلك

وقال ندبة‏:‏

أنا الفارس الحامي حقيقة والدي وآلي كما تحمي حقيقة آلكا

الحقيقة ‏(1) ما يحق على الإنسان أن يحميه أي تجب عليه حمايته

 الخامسة‏:‏ واختلفوا أيضا في أصل آل فقال النحاس أصله أهل ثم أبدل من الهاء ألفا فإن صغرته رددته إلى أصله فقلت‏:‏ أهيل وقال المهدوي‏:‏ أصله أول وقيل‏:‏ أهل، قبلت الهاء همزة ثم أبدلت الهمزة ألفا وجمعه آلون وتصغيره أويل فيما حكى الكسائي‏.‏ وحكى غيره أهيل وقد ذكرنا عن النحاس وقال أبو الحسن بن كيسان‏:‏ إذا جمعت آلا قلت آلون فإن جمعت آلا الذي هو السراب قلت آوال مثل مال وأموال‏.‏

 السادسة‏:‏ قوله تعالى‏{‏فرعون‏}‏ قيل‏:‏ إنه اسم ذلك الملك بعينه وقيل إنه اسم كل ملك من ملوك العمالقة مثل كسرى للفرس وقيصر للروم والنجاشي للحبشة وأن اسم فرعون موسى قابوس في قول أهل الكتاب‏.‏ وقال وهب اسمه الوليد بن مصعب بن الريان ويكنى أبا مرة وهو من بني عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام‏.‏ قال السهيلي‏:‏ وكل من ولى القبط ومصر فهو فرعون وكان فارسيا من أهل اصطخر قال المسعودي لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية قال الجوهري فرعون لقب الوليد بن مصعب ملك مصر وكل عات فرعون والعتاة الفراعنة وقد تفرعن وهو ذو فرعنة أي دهاء ونكر‏.‏ وفي الحديث ‏(‏أخذنا فرعون هذه الأمة‏)‏ ‏{‏وفرعون‏}‏ في موضع خفض إلا أنه لا ينصرف لعجمته

 السابعة‏:‏ قوله تعالى‏{‏يسومونكم ‏}‏قيل معناه يذيقونكم ويلزمونكم إياه وقال أبو عبيدة يولونكم يقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها ومنه قول عمرو بن كلثوم

إذا ما الملك سام الناس خسفا أبينا أن نقر الخسف فينا

وقيل يديمون تعذيبكم والسوم الدوام ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرعي قال الأخفش‏:‏ وهو في موضع رفع على الابتداء وإن شئت كان في موضع نصب على الحال أي سائمين لكم

 الثامنة‏:‏ قوله تعالى‏{‏سوء العذاب ‏}‏مفعول ثان لـ ‏{‏يسومونكم‏}‏ ومعناه أشد العذاب ويجوز أن يكون بمعنى سوم العذاب وقد يجوز أن يكون نعتا بمعنى سوما سيئا فروي أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما وخولا وصنفهم في أعماله فصنف يبنون وصنف يحرثون ويزرعون وصنف يتخدمون وكان قومه جندا ملوكا ومن لم يكن منهم في عمل من هذه الأعمال ضربت عليه الجزية فذلك سوء العذاب‏.‏

 التاسعة‏:‏ قوله تعالى‏{‏يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم ‏}‏‏{‏يذبحون‏}‏ بغير واو على البدل من قومه ‏{‏يسومونكم‏}‏ كما قال أنشده سيبويه‏:‏

متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطبا جزلا ونارا تأججا

قال الفراء وغيره ‏{‏يذبحون‏}‏ بغير واو على التفسير لقوله ‏{‏يسومونكم سوء العذاب‏} ‏ُ كما تقول أتاني القوم زيد وعمرو فلا تحتاج إلى الواو في زيد ونظيره‏{‏ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب‏} وفي سورة إبراهيم ‏{‏ويذبحون‏}‏ بالواو لأن المعنى يعذبونكم بالذبح وبغير الذبح فقوله ‏{‏ويذبحون أبناءكم‏}‏ جنس آخر من العذاب لا تفسير لما قبله والله أعلم

قلت قد يحتمل أن يقال إن الواو زائدة بدليل سورة البقرة والواو قد تزاد كما قال‏:‏

فلما اجزنا ساحة الحي وانتحى

أي قد انتحى وقال آخر‏:‏

إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم

أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة وهو كثير

 العاشرة‏:‏ قوله تعالى‏{‏يذبحون‏}‏ قراءة الجماعة بالتشديد على التكثير وقرأ ابن محيصن ‏{‏يذبحون‏}‏ بفتح الباء والذبح الشق والذبح المذبوح والذباح تشقق في أصول الأصابع وذبحت الدن بزلته أي كشفته وسعد الذابح أحد السعود والمذابح المحاريب والمذابح جمع مذبح وهو إذا جاء السيل فخد في الأرض فما كان كالشبر ونحوه سمي مذبحا فكان فرعون يذبح الأطفال ويبقي البنات وعبر عنهم باسم النساء بالمآل وقالت طائفة ‏{‏يذبحون أبناءكم‏}‏ يعني الرجال وسموا أبناء لما كانوا كذلك واستدل هذا القائل بقوله ‏{‏نساءكم‏}‏ والأول أصح لأنه الأظهر والله أعلم

 الحادية عشرة‏:‏ نسب الله تعالى الفعل إلى آل فرعون وهم إنما كانوا يفعلون بأمره وسلطانه لتوليهم ذلك بأنفسهم وليعلم أن المباشر مأخوذ بفعله قال الطبري‏:‏ ويقتضي أن من أمره ظالم بقتل أحد فقتله المأمور فهو المأخوذ به‏.‏

قلت‏:‏ وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال يقتلان جميعا هذا بأمره والمأمور بمباشرته هكذا قال النخعي وقال الشافعي ومالك في تفصيل لهما قال الشافعي إذا أمر السلطان رجلا بقتل رجل والمأمور يعلم أنه أمر بقتله ظلما كان عليه وعلى الإمام القود كقاتلين معا وإن أكرهه الإمام عليه وعلم أنه يقتله ظلما كان على الإمام القود وفي المأمور قولان أحدهما أن عليه القود والآخر لا قود عليه وعليه نصف الدية حكاه ابن المنذر وقال علماؤنا لا يخلو المأمور أن يكون ممن تلزمه طاعة الآمر ويخاف شره كالسلطان والسيد لعبده فالقود في ذلك لازم لهما أو يكون ممن لا يلزمه ذلك فيقتل المباشر وحده دون الآمر وذلك كالأب يأمر ولده أو المعلم بعض صبيانه أو الصانع بعض متعلميه إذا كان محتلما فان كان غير محتلم فالقتل على الآمر وعلى عاقلة الصبي نصف الدية وقال ابن نافع لا يقتل السيد إذا أمر عبده وإن كان أعجميا بقتل إنسان قال ابن حبيب وبقول ابن القاسم أقول إن القتل عليهما فأما أمر من لا خوف على المأمور في مخالفته فإنه لا يلحق بالإكراه بل يقتل المأمور دون الآمر ويضرب الآمر ويحبس وقال أحمد في السيد يأمر عبده أن يقتل رجلا يقتل السيد وروي هذا القول عن علي بن أبي طالب وأبي هريرة رضي الله عنهما وقال علي ويستودع العبد السجن وقال أحمد ويحبس العبد ويضرب ويؤدب وقال الثوري يعزر السيد وقال الحكم وحماد يقتل العبد وقال قتادة يقتلان جميعا وقال الشافعي إن كان العبد فصيحا يعقل قتل العبد وعوقب السيد وإن كان العبد أعجميا فعلى السيد القود وقال سليمان بن موسى لا يقتل الآمر ولكن تقطع يديه ثم يعاقب ويحبس وهو القول الثاني ويقتل المأمور للمباشرة وكذلك قال عطاء والحكم وحماد والشافعي وأحمد وإسحاق في الرجل يأمر الرجل بقتل الرجل وذكره ابن المنذر وقال زفر لا يقتل واحد منهما وهو القول الثالث حكاه أبو المعالي في البرهان ورأى أن الآمر والمباشر ليس كل واحد منهما مستقلا في القود فلذلك يقتل لا واحد منهما عنده والله أعلم

 الثانية عشرة‏:‏ قرأ الجمهور ‏{‏يذبحون‏}‏ بالتشديد على المبالغة وقرأ ابن محيصن ‏{‏يذبحون‏}‏ بالتخفيف والأولى أرجح إذ الذبح متكرر وكان فرعون على ما روي قد رآه في منامه نارا خرجت من بيت المقدس فأحرقت بيوت مصر فأولت له رؤياه أن مولودا من بني إسرائيل ينشأ فيكون خراب ملكه على يديه وقيل غير هذا والمعنى متقارب

 الثالثة عشرة‏:‏ قوله تعالى‏{‏وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ‏}‏إشارة إلى جملة الأمر إذ هو خبر فهو كمفرد حاضر أي وفي فعلهم ذلك بكم بلاء أي امتحان واختبار و‏{‏بلاء‏}‏ نعمة ومنه قوله تعالى ‏{‏وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا‏} ‏ قال أبو الهيثم البلاء يكون حسنا ويكون سيئا وأصله المحنة والله عز وجل يبلو عبده بالصنع الجميل ليمتحن شكره ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره فقيل للحسن بلاء وللسيئ بلاء حكاه الهروي وقال قوم الإشارة بـ ‏{‏ذلكم‏}‏ إلى التنجية فيكون البلاء على هذا في الخير أي تنجيتكم نعمة من الله عليكم وقال الجمهور الإشارة إلى الذبح ونحوه والبلاء هنا في الشر والمعنى وفي الذبح مكروه وامتحان وقال ابن كيسان ويقال في الخير أبلاه الله وبلاه وأنشد

جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو

فجمع بين اللغتين والأكثر في الخير أبليته وفي الشر بلوته وفي الاختبار أبتليته وبلوته قاله النحاس‏.‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏50‏)‏

‏{‏وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذ فرقنا ‏}‏‏{‏إذا‏}‏ في موضع نصب و‏{‏فرقنا‏}‏ فلقنا فكان كل فرق كالطود العظيم أي الجبل العظيم وأصل الفرق الفصل ومنه فرق الشعر ومنه الفرقان لأنه يفرق بين الحق والباطل أي يفصل ومنه‏{‏فالفارقات فرقا‏} يعني الملائكة تنزل بالفرق ببن الحق والباطل ومنه ‏{‏يوم الفرقان‏} يعني يوم بدر كان، فيه فرق بين الحق والباطل ومنه ‏{‏وقرآنا فرقناه‏} أي فصلناه وأحكمناه‏.‏ وقرأ الزهري ‏{‏فرقنا‏{‏ بتشديد الراء أي جعلناه فرقا ومعنى ‏{‏بكم‏{‏ أي لكم فالباء بمعنى اللام وقيل الباء في مكانها أي فرقنا البحر بدخولكم إياه أي صاروا بين الماءين فصار الفرق بهم وهذا أولى يبينه ‏{‏فانفلق‏{‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏بكم البحر ‏{‏البحر معروف سمي بذلك لاتساعه ويقال فرس بحر إذا كان واسع الجري أي كثيره، ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في مندوب فرس أبي طلحة ‏(‏وإن وجدناه لبحرا‏)‏ والبحر الماء الملح ويقال أبحر الماء ملح قال نصيب وقد عاد ماء الأرض بحرا فزادني إلى مرضي أن أبحر المشرب العذب والبحر البلدة يقال هذه بحرتنا أي بلدتنا‏.‏ قال الأموي والبحر السلال يصيب الإنسان‏.‏ ويقولون لقيته صحرة بحرة أي بارزا مكشوفا‏.‏ وفي الخبر عن كعب الأحبار قال إن لله ملكا يقال له صندفاييل البحار كلها في نقرة إبهامه‏.‏ ذكره أبو نعيم في ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن كعب‏.‏

قوله تعالى‏{‏فأنجيناكم ‏{‏أي أخرجناكم منه يقال نجوت من كذا نجاء ممدود ونجاة مقصور والصدق منجاة‏.‏ وأنجيت غيري ونجيته وقرئ بهما ‏{‏وإذ نجيناكم‏{‏ ‏{‏فأنجيناكم‏{‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأغرقنا آل فرعون ‏{‏يقال غرق في الماء غرقا فهو غرق وغارق أيضا ومنه قول أبي النجم ‏:‏

من بين مقتول وطاف غارق

وأغرقه غيره وغرقه فهو مغرق وغريق‏.‏ ولجام مغرق بالفضة أي محلى والتغريق‏:‏ القتل قال الأعشى ‏:‏

ألا ليت قيسا غرقته القوابل

وذلك أن القابلة كانت تغرق المولود في ماء السلى عام القحط ذكرا كان أو أنثى حتى يموت ثم جعل كل قتل تغريقا ومنه قول ذي الرمة‏:‏

إذا غرقت أرباضها ثني بكرة بتيهاء لم تصبح رؤوما سلوبها

والأرباض الحبال والبكرة الناقة الفتية وثنيها بطنها الثاني، وإنما لم تعطف على ولدها لما لحقها من التعب‏.‏

القول في اختلاف العلماء في كيفية إنجاء بني إسرائيل

فذكر الطبري أن موسى عليه السلام أوحي إليه أن يسري من مصر ببني إسرائيل فأمرهم موسى أن يستعيروا الحلي والمتاع من القبط وأحل الله ذلك لبني إسرائيل فسرى بهم موسى من أول الليل فأعلم فرعون فقال‏:‏ لا يتبعهم أحد حتى تصيح الديكة فلم يصح تلك الليلة بمصر ديك وأمات الله تلك الليلة كثيرا من أبناء القبط فاشتغلوا في الدفن وخرجوا في الأتباع مشرقين كما قال تعالى ‏{‏فأتبعوهم مشرقين‏} وذهب موسى إلى ناحية البحر حتى بلغه‏.‏ وكانت عدة بني إسرائيل نيفا على ستمائة ألف‏.‏ وكانت عدة فرعون ألف ألف ومائتي ألف وقيل‏:‏ إن فرعون اتبعه في ألف ألف حصان سوى الإناث وقيل دخل إسرائيل - وهو يعقوب عليه السلام - مصر في ستة وسبعين نفسا من ولده وولد ولده فأنمى الله عددهم وبارك في ذريته حتى خرجوا إلى البحر يوم فرعون وهم ستمائة ألف من المقاتلة سوى الشيوخ والذرية والنساء وذكر أبو بكر عبدالله بن محمد بن أبي شيبة قال‏:‏ حدثنا شبابة بن سوار عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبدالله بن مسعود أن موسى عليه السلام حين أسرى ببني إسرائيل بلغ فرعون فأمر بشاة فذبحت، ثم قال‏:‏ لا والله لا يفرغ من سلخها حتى تجتمع لي ستمائة ألف من القبط، قال‏:‏ فانطلق موسى حتى انتهى إلى البحر فقال له أفرق فقال له البحر لقد استكبرت يا موسى وهل فرقت لأحد من ولد آدم فأفرق لك قال‏:‏ ومع موسى رجل على حصان له قال‏:‏ فقال له ذلك الرجل‏:‏ أين أمرت يا نبي الله‏؟‏ قال‏:‏ ما أمرت إلا بهذا الوجه قال فأقحم فرسه فسبح فخرج‏.‏ فقال أين أمرت يا نبي الله قال ما أمرت إلا بهذا الوجه قال والله ما كذبت ولا كذبت ثم أقتحم الثانية فسبح به حتى خرج فقال أين أمر ت يا نبي الله‏؟‏ فقال ما أمرت إلا بهذا الوجه قال والله ما كذبت ولا كذبت قال فأوحى الله إليه ‏{‏أن اضرب بعصاك البحر‏}‏ فضربه موسى بعصاه ‏{‏فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم‏} ‏ُ فكان فيه اثنا عشر فرقا لاثني عشر سبطا، لكل سبط طريق يتراءون، وذلك أن أطواد الماء صار فيها طيقانا وشبابيك يرى منها بعضهم بعضا فلما خرج أصحاب موسى وقام أصحاب فرعون التطم البحر عليهم فأغرقهم ويذكر أن البحر هو بحر القلزم وأن الرجل الذي كان مع موسى على الفرس هو فتاه يوشع بن نون وأن الله تعالى أوحى إلى البحر أن انفلق لموسى إذا ضربك فبات البحر تلك الليلة يضطرب فحين أصبح ضرب البحر وكناه أبا خالد ذكره ابن أبي شيبة أيضا وقد أكثر المفسرون في قصص هذا المعنى وما ذكرناه كاف وسيأتي في سورة ‏{‏يونس والشعراء‏{‏ زيادة بيان أن شاء الله تعالى‏.‏

فصل‏:‏ ذكر الله تعالى الإنجاء والإغراق ولم يذكر اليوم الذي كان ذلك فيه ف‏"‏روى مسلم عن ابن عباس ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله صلى صلى الله عليه وسلم ‏(‏ما هذا اليوم الذي تصومونه‏)‏ فقالوا‏:‏ هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكرا فنحن نصومه‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فنحن أحق وأولى بموسى منكم‏)‏ فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه‏.‏‏"‏ وأخرجه البخاري‏"‏ أيضا عن ابن عباس وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ‏(‏أنتم أحق بموسى منهم فصوموا‏)‏

مسألة‏:‏ ظاهر هذه الأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صام عاشوراء وأمر بصيامه اقتداء بموسى عليه السلام على ما أخبره به اليهود‏.‏ وليس كذلك لما روته عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صلى يصومه في الجاهلية فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك صيام يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه أخرجه البخاري ومسلم‏.‏

فإن قيل‏:‏ يحتمل أن تكون قريش إنما صامته بإخبار اليهود لها لأنهم كانوا يسمعون منهم لأنهم كانوا عندهم أهل علم فصامه النبي عليه السلام كذلك في الجاهلية أي بمكة فلما قدم المدينة ووجد اليهود يصومونه قال ‏(‏نحن أحق وأولى بموسى منكم‏)‏ فصامه اتباعا لموسى‏.‏ ‏(‏وأمر بصيامه‏)‏ أي أوجبه وأكد أمره حتى كانوا يصومونه الصغار قلنا‏:‏ هذه شبهة من قال‏:‏ إن النبي صلى لعله كان متعبدا بشريعة موسى وليس كذلك على ما يأتي بيانه في ‏{‏الأنعام‏{‏ عند قوله تعالى ‏{‏فبهداهم اقتده‏} ‏ُ

 مسألة‏:‏ اختلف في يوم عاشوراء هل هو التاسع من المحرم أو العاشر‏؟‏ فذهب الشافعي إلى أنه التاسع لحديث الحكم بن الأعرج قال‏:‏ انتهيت إلى ابن عباس رضي الله عنهما وهو متوسد رداءه في زمزم فقلت له‏:‏ أخبرني عن صوم عاشوراء فقال إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما قلت هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يصومه‏؟‏ قال نعم خرجه مسلم‏.‏ وذهب سعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وجماعة من السلف إلى أنه العاشر‏.‏ وذكر الترمذي حديث الحكم ولم يصفه بصحة ولا حسن‏.‏ ثم أردفه‏:‏ أنبأنا قتيبة أنبأنا عبدالوارث عن يونس عن الحسن عن ابن عباس قال‏:‏ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم عاشوراء يوم العاشر‏.‏ قال أبو عيسى حديث ابن عباس حديث حسن صحيح‏.‏ قال الترمذي‏:‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود‏.‏ وبهذا الحديث يقول الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق‏.‏ قال غيره‏:‏ وقول ابن عباس للسائل ‏(‏فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما‏)‏ ليس فيه دليل على ترك صوم العاشر بل وعد أن يصوم التاسع مضافا إلى العاشر‏.‏ قالوا‏:‏ فصيام اليومين جمع بين الأحاديث‏.‏ وقول ابن عباس للحكم لما قال له‏:‏ هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يصومه‏؟‏ قال نعم معناه أن لو عاش وإلا فما كان النبي صلى الله عليه وسلم صام التاسع قط يبينه ما‏"‏ خرجه ابن ماجة في سننه ومسلم في صحيحه عن ابن عباس‏"‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏لئن بقيت إلى قابل لأصومن اليوم التاسع‏)‏

 فضيلة‏:‏ روى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله‏)‏‏"‏ أخرجه مسلم والترمذي‏"‏ وقال‏:‏ لا نعلم في شيء من الروايات أنه قال‏:‏ ‏(‏صيام يوم عاشوراء كفارة سنة‏)‏ إلا في حديث أبي قتادة‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأنتم تنظرون ‏{‏جملة في موضع الحال ومعناه بأبصاركم فيقال إن آل فرعون طفوا على الماء فنظروا إليهم يغرقون وإلى أنفسهم ينجون ففي هذا أعظم المنة‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنهم أخرجوا لهم حتى رأوهم فهذه منة بعد منة وقيل‏:‏ المعنى ‏{‏وأنتم تنظرون‏{‏ أي ببصائركم الاعتبار لأنهم كانوا في شغل عن الوقوف والنظر بالأبصار وقيل‏:‏ المعنى وأنتم بحال من ينظر لو نظر كما تقول هذا الأمر منك بمرأى ومسمع أي بحال تراه وتسمعه إن شئت‏.‏ وهذا القول والأول أشبه بأحوال بني إسرائيل لتوالى عدم الاعتبار فيما صدر من بني إسرائيل بعد خروجهم من البحر وذلك أن الله تعالى لما أنجاهم وغرق عدوهم قالوا‏:‏ يا موسى إن قلوبنا لا تطمئن إن فرعون قد غرق حتى أمر الله البحر فلفظه فنظروا إليه‏.‏

ذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن قيس بن عباد أن بني إسرائيل قالت‏:‏ ما مات فرعون وما كان ليموت أبدا قال‏:‏ فلما أن سمع الله تكذيبهم نبيه عليه السلام رمى به على ساحل البحر كأنه ثور أحمر يتراءاه بنو إسرائيل فلما اطمأنوا وبعثوا من طريق البر إلى مدائن فرعون حتى نقلوا كنوزه وغرقوا في النعمة رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة حتى زجرهم موسى وقال‏:‏ أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين أي عالمي زمانه ثم أمرهم أن يسيروا إلى الأرض المقدسة التي كانت مساكن آبائهم ويتطهروا من أرض فرعون وكانت الأرض المقدسة في أيدي الجبارين قد غلبوا عليها فاحتاجوا إلى دفعهم عنها بالقتال فقالوا أتريد أن تجعلنا لحمة للجبارين فلو أنك تركتنا في يد فرعون كان خيرا لنا قال‏{‏يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم‏} ‏ُ إلى قول ‏{‏قاعدون‏{‏ حتى دعا عليهم وسماهم فاسقين‏.‏ فبقوا في التيه أربعين سنة عقوبة ثم رحمهم فمن عليهم بالسلوى وبالغمام - على ما يأتي بيانه - ثم سار موسى إلى طور سيناء ليجيئهم بالتوراة فاتخذوا العجل - على ما يأتي بيانه - ثم قيل لهم‏:‏ قد وصلتم إلى بيت المقدس فادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة - على ما يأتي - وكان موسى عليه السلام شديد الحياء ستيرا فقالوا إنه آدر‏.‏ فلما أغتسل وضع على الحجر ثوبه فعدا الحجر بثوبه إلى مجالس بني إسرائيل وموسى على أثره عريان وهو يقول‏:‏ يا حجر ثوبي فذلك قوله تعالى ‏{‏يا أيها الذين أمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا‏} ‏ - على ما يأتي بيانه - ثم لما مات هارون قالوا له‏:‏ أنت قتلت هارون وحسدته حتى نزلت الملائكة بسريره وهارون ميت عليه - وسيأتي في المائدة - ثم سألوه أن يعلموا آية في قبول قربانهم فجعلت نار تجيء من السماء فتقبل قربانهم ثم سألوه أن بين لنا كفارات ذنوبنا في الدنيا فكان من أذنب ذنبا أصبح على بابه مكتوب ‏(‏عملت كذا وكفارته قطع عضو من أعضائك‏)‏ يسميه له ومن أصابه بول لم يطهر حتى يقرضه ويزيل جلدته من بدنه ثم بدلوا التوراة وافتروا على الله وكتبوا بأيديهم واشتروا به عرضا ثم صار أمرهم إلى أن قتلوا أنبياءهم ورسلهم‏.‏ فهذه معاملتهم مع ربهم وسيرتهم في دينهم وسوء أخلاقهم وسيأتي بيان كل فصل من هذه الفصول مستوفى في موضعه إن شاء الله تعالى وقال الطبري‏:‏ وفي أخبار القرآن على لسان محمد عليه السلام بهذه المغيبات التي لم تكن من علم العرب ولا وقعت إلا في حق بني إسرائيل دليل واضح عند بن إسرائيل قائم عليهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏51‏)‏

‏{‏وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة‏{‏ قرأ أبو عمرو ‏{‏وعدنا‏{‏ بغير ألف، واختاره أبو عبيد ورجحه وأنكر ‏{‏واعدنا‏{‏ قال‏:‏ لأن المواعدة إنما تكون من البشر فأما الله جل وعز فإنما هو المنفرد بالوعد والوعيد‏.‏ على هذا وجدنا القرآن، كقوله عز وجل‏{‏وعدكم وعد الحق‏}‏إبراهيم‏:‏ 22 وقوله‏{‏وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ‏}‏الفتح‏:‏ 29 وقوله‏{‏وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم‏} قال مكي‏:‏ وأيضا فإن ظاهر اللفظ فيه وعد من الله تعالى لموسى، وليس فيه وعد من موسى، فوجب حمله على الواحد، لظاهر النص أن الفعل مضاف إلى الله تعالى وحده، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وأبي جعفر وشيبة وعيسى بن عمر، وبه قرأ قتادة وابن أبي إسحاق‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ قراءة العامة عندنا ‏{‏وعدنا‏{‏ بغير ألف، لأن المواعدة أكثر ما تكون بين المخلوقين والمتكافئين، كل واحد منهما يَعِد صاحبه‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الميعاد‏:‏ المواعدة والوقت والموضع‏.‏ قال مكي‏:‏ المواعدة أصلها من اثنين، وقد تأتي المفاعلة من واحد في كلام العرب، قالوا‏:‏ طارقت النعل، وداويت العليل، وعاقبت اللص، والفعل من واحد‏.‏ فيكون لفظ المواعدة من الله خاصة لموسى كمعنى وعدنا، فتكون القراءتان بمعنى واحد‏.‏ والاختبار ‏{‏واعدنا‏{‏ بالألف لأنه بمعنى ‏{‏وعدنا‏{‏ في أحد معنييه، ولأنه لا بدّ لموسى من وعد أو قبول يقوم مقام الوعد فتصح المفاعلة‏.‏ قال النحاس‏:‏ وقراءة ‏{‏واعدنا‏{‏ بالألف أجود وأحسن، وهي قراءة مجاهد والأعرج وابن كثير ونافع والأعمش وحمزة والكسائي، وليس قوله عز وجل‏{‏وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات‏{‏ من هذا في شيء، لأن ‏{‏واعدنا موسى‏{‏ إنما هو من باب الموافاة، وليس هذا من الوعد والوعيد في شيء، وإنما هو من قولك‏:‏ موعدك يوم الجمعة، وموعدك موضع كذا‏.‏ والفصيح في هذا أن يقال‏:‏ واعدته‏.‏ قال أبو إسحاق الزجاج‏{‏واعدنا‏{‏ ههنا بالألف جيد، لأن الطاعة في القبول بمنزلة المواعدة، فمن الله جل وعز وعد، ومن موسى قبول واتباع يجري مجرى المواعدة‏.‏ قال ابن عطية‏.‏ ورجح أبو عبيدة ‏{‏وعدنا‏{‏ وليس بصحيح، لأن قبول موسى لوعد الله والتزامه وارتقابه يشبه المواعدة‏.‏

قوله تعالى‏{‏موسى‏{‏ اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والتعريف والقبط على - ما يروى - يقولون للماء‏:‏ مو، وللشجر‏:‏ شا‏.‏ فلما وجد موسى في التابوت عند ماء وشجر سمي موسى‏.‏ قال السدي‏:‏ لما خافت عليه أمه جعلته في التابوت وألقته في اليَمّ - كما أوحى الله إليها - فألقته في اليم بين أشجار عند بيت فرعون، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن فوجدنه، فسمي باسم المكان‏.‏ وذكر النقاش وغيره‏:‏ أن اسم الذي التقطته صابوث‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ وموسى هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام‏.‏

قوله تعالى‏{‏أربعين ليلة‏{‏ أربعين نصب على المفعول الثاني، وفي الكلام حذف قال الأخفش‏:‏ التقدير وإذ واعدنا موسى تمام أربعين ليلة كما قال ‏{‏واسأل القرية‏{‏ والأربعون كلها داخلة في الميعاد‏.‏

والأربعون في قول أكثر المفسرين ذو القعدة وعشرة من ذي الحجة وكان ذلك بعد أن جاوز البحر وسأل قومه أن يأتيهم بكتاب من عند الله فخرج إلى الطور في سبعين من خيار بني إسرائيل وصعدوا الجبل وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة فعدوا - فيما ذكر المفسرون - عشرين يوما وعشرين ليلة وقالوا قد أخلفنا موعده‏.‏ فاتخذوا العجل وقال لهم السامري‏:‏ هذا إلهكم وإله موسى فاطمأنوا إلى قوله‏.‏ ونهاهم هارون وقال‏{‏يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى‏}‏ فلم يتبع هارون ولم يطعه في ترك عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا فيما روي في الخبر‏.‏ وتهافت في عبادته سائرهم وهم أكثر من ألفي ألف فلما رجع موسى ووجدهم على تلك الحال ألقى الألواح فرفع من جملتها ستة أجزاء وبقي جزء واحد وهو الحلال والحرام وما يحتاجون وأحرق العجل وذراه في البحر فشربوا من مائه حبا للعجل فظهرت على شفاههم صفرة وورمت بطونهم فتابوا ولم تقبل توبتهم دون أن يقتلوا أنفسهم فذلك قوله تعالى‏{‏فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم‏}‏ فقاموا بالخناجر والسيوف بعضهم إلى بعض من لدن طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى فقتل بعضهم بعضا لا يسأل والد عن ولده ولا ولد عن والده ولا أخ عن أخيه ولا أحد عن أحد كل من استقبله ضربه بالسيف وضربه الآخر بمثله حتى عج موسى إلى الله صارخا‏:‏ يا رباه قد فنيت بنو إسرائيل فرحمهم الله وجاد عليهم بفضله فقبل توبة من بقي وجعل من قتل في الشهداء على ما يأتي‏.‏

إن قيل‏:‏ لم خص الليالي بالذكر دون الأيام‏؟‏ قيل له‏:‏ لأن الليلة أسبق من اليوم قبله في الرتبة ولذلك وقع بها التاريخ فالليالي أول الشهور والأيام تبع لها‏.‏

قال النقاش‏:‏ في هذه الآية إشارة إلى صلة الصوم لأنه تعالى لو ذكر الأيام لأمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل فلما نص على الليالي اقتضت قوة الكلام أنه عليه السلام واصل أربعين يوما بلياليها‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ سمعت الشيخ الزاهد الإمام الواعظ أبا الفضل الجوهري رحمه الله يعظ الناس في الخلوة بالله والدنو منه في الصلاة ونحوه وأن ذلك يشغل عن كل طعام وشراب ويقول‏:‏ ابن حال موسى في القرب من الله ووصال ثمانين من الدهر من قول حين سار إلى الخضر لفتاه في بعض يوم ‏{‏آتنا غداءنا‏}‏

قلت‏:‏ وبهذا استدل علماء الصوفية على الوصال وأن أفضله أربعون يوما وسيأتي الكلام في الوصال في آي الصيام من هذه السورة إن شاء الله تعالى ويأتي في ‏{‏الأعراف‏{‏ زيادة أحكام لهذه الآية عند قوله تعالى ‏{‏وواعدنا موسى ثلاثين ليلة‏} ‏ُ ويأتي لقصة العجل ببان في كيفيته وخواره هناك وفي ‏{‏طه‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم اتخذتم العجل من بعده‏{‏ أي اتخذتموه إلها من بعد موسى وأصل اتخذتم ائتخذتم من الأخذ ووزنه أفتعلتم سهلت الهمزة الثانية لامتناع همزتين فجاء إيتخذتم فاضطربت الياء في التصريف جاءت ألفا في ياتخذ وواوا في موتخذ فبدلت بحرف جلد ثابت من جنس ما بعدها وهي التاء وأدغمت ثم اجتلبت ألف الوصل للنطق وقد يستغنى عنها إذا كان معنى الكلام التقرير كقوله تعالى ‏{‏قل اتخذتم عند الله عهدا‏}‏ فاستغنى عن ألف الوصل بألف التقرير قال الشاعر‏:‏

استحدث الركب عن أشياعهم خبرا أم راجع القلب من أطرابه طرب

ونحوه في القرآن ‏{‏أطلع الغيب‏}‏ {‏ أصطفى البنات‏} ‏ُ ‏{‏أستكبرت أم كنت‏}‏ ومذهب أبي علي الفارسي أن ‏{‏اتخذتم‏{‏ من تخذ لا من أخذ‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأنتم ظالمون ‏{‏جملة في موضع الحال وقد تقدم معنى الظلم والحمد لله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏52‏)‏

‏{‏ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ثم عفونا عنكم ‏{‏العفو عفو الله جل وعز عن خلقه وقد يكون بعد العقوبة وقبلها بخلاف الغفران فإنه لا يكون معه عقوبة البتة‏.‏ وكل من استحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه فالعفو محو الذنب أي محونا ذنوبكم وتجاوزنا عنكم مأخوذ من قولك عفت الريح الأثر أي أذهبته وعفا الشيء كثر فهو من الأضداد ومنه قوله تعالى ‏{‏حتى عفوا‏} ‏ُ

قوله تعالى‏{‏من بعد ذلك ‏{‏أي من بعد عبادتكم العجل وسمي العجل عجلا لاستعجالهم عبادته‏.‏ والله أعلم والعجل ولد البقرة والعجول مثله والجمع العجاجيل والأنثى عجلة عن أبي الجراح‏.‏

قوله تعالى‏{‏لعلكم تشكرون‏{‏ كي تشكروا عفو الله عنكم وقد تقدم معنى لعل وأما الشكر فهو في اللغة الظهور من قول دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف وحقيقته الثناء على الإنسان بمعروف يوليكه‏.‏ كما تقدم في الفاتحة‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الشكر الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف يقال‏:‏ شكرته وشكرت له وباللام أفصح والشكران خلاف الكفران وتشكرت له مثل شكرت له‏.‏ و‏"‏روى الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة‏"‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏(‏لا يشكر الله من لا يشكر الناس‏)‏ قال الخطابي‏:‏ هذا الكلام يتأول على معنيين أحدهما - أن من كان من طبعه كفران نعمة الناس وترك الشكر لمعروفهم كان من عادته كفران نعمة الله عز وجل وترك الشكر له‏.‏ والوجه الآخر - أن الله سبحانه لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس إليه ويكفر معروفهم لاتصال أحد الأمرين بالآخر‏.‏

في عبارات العلماء في معنى الشكر فقال سهل بن عبدالله الشكر‏:‏ الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية‏.‏ وقالت فرقة أخرى‏:‏ الشكر هو الاعتراف في تقصير الشكر للمنعم ولذلك قال تعالى ‏{‏اعملوا آل داود شكرا‏}‏ فقال داود‏:‏ كيف أشكرك يا رب والشكر نعمة منك قال الآن قد عرفتني وشكرتني إذ قد عرفت أن الشكر مني نعمة قال‏:‏ يا رب فأرني أخفى نعمك علي قال‏:‏ يا داود تنفس فتنفس داود فقال الله تعالى من يحصي هذه النعمة الليل والنهار وقال موسى عليه السلام‏:‏ كيف أشكرك وأصغر نعمة وضعتها بيدي من نعمك لا يجازى بها عملي كله فأوحى الله إليه يا موسى الآن شكرتني وقال الجنيد‏:‏ حقيقة الشكر العجز عن الشكر وعنه قال‏:‏ كنت بين يدي السري السقطي ألعب وأنا ابن سبع سنين وببن يديه جماعة يتكلمون في الشكر فقال لي‏:‏ يا غلام ما الشكر‏؟‏ فقلت‏:‏ ألا يعصى الله بنعمه فقال لي‏:‏ أخشى أن يكون حظك من الله لسانك قال الجنيد فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها السري لي وقال الشبلي الشكر‏:‏ التواضع والمحافظة على الحسنات ومخالفة الشهوات وبذل الطاعات ومراقبة جبار الأرض والسماوات وقال ذو النون المصري أبو الفيض الشكر لمن فوقك بالطاعة ولنظيرك بالمكافأة ولمن دونك بالإحسان والإفضال‏.‏